الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة: ولما بين تعالى حال المشرك والمجادل في الله بين تعالى حال المسلم المستسلم لأمر الله تعالى بقوله تعالى: {ومن يسلم} أي: في الحال والاستقبال {وجهه} أي: قصده وتوجهه وذاته كلها {إلى الله} أي: الذي له صفات الكمال بأن فوض أمره إليه فلم يبق لنفسه أمر أصلًا فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه: {وهو} أي: والحال أنه {محسن} أي: مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائمًا في حال الشهود {فقد استمسك} أي: أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوّة في تأدية الأمور {بالعروة الوثقى} أي: اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه؛ لأنّ أوثق العرى جانب الله تعالى فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له، وهذا من باب التمثيل مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق جبل فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، فإن قيل كيف قال هاهنا {ومن يسلم وجهه إلى الله} فعداه بإلى، وقال في البقرة {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن}.فعداه باللام؟أجيب: بأن أسلم يتعدّى تارة باللام، وتارة بإلى، كما يتعدّى أرسل تارة باللام وتارة بإلى قال تعالى: {وأرسلناك للناس رسولًا} وقال تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا} {وإلى الله} أي: الملك الأعلى {عاقبة الأمور} أي: مصير جميع الأشياء إليه، كما أنّ منه باديتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادية، ولما بين تعالى حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال تعالى: {ومن كفر} أي: ستر ما أداه إليه عقله من أن الله تعالى لا شريك له وأن لا قدرة أصلًا لأحدٍ سواه ولم يسلم وجهه إليه {فلا يحزنك} أي: يهمك ويوجعك {كفره} كائنًا من كان، فإنه لم يفتك شيء فيه ولا معجز لنا ليحزنك ولا تبعة عليك بسببه في الدنيا وفي الآخرة، وأفرد الضمير في كفره اعتبارًا بلفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأوّل بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجًا عنه فالآية من الاحتباك، ذكر الحزن ثانيًا دليلًا على حذف ضدّه أوّلًا، وذكر الاستمساك أوّلًا دليلًا على حذف ضدّه ثانيًا {إلينا} أي: في الدارين {مرجعهم فننبئهم} أي: بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم {بما عملوا} أي: ونجازيهم عليه إن أردنا {إن الله} أي: الذي لا كفء له {عليم} أي: محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال {بذات الصدور} أي: لا يخفى عليه سرّهم وعلانيتهم فينبئهم بما أسرّت صدورهم.{نمتعهم} أي: نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا {قليلًا} أي: إلى انقضاء آجالهم فإن كل آت قريب، وإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل {ثم نضطرّهم} أي: نلجئهم ونردّهم في الآخرة {إلى عذاب غليظ} أي: شديد ثقيل لا ينقطع عنهم أصلًا ولا يجدون لهم منه محيصًا من جهة من جهاته فكأنه في شدّته وثقله جرم عظيم غليظ جدًّا إذا ترك على شيء لا يقدر على الخلاص منه، ثم إنه تعالى لما سلى قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فلا يحزنك كفره} أي: لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا على أنه لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة كما قال تعالى: {ولئن} اللام لام قسم {سألتهم من خلق السموات} أي: بأسرها ومن فيها {والأرض} كذلك وقوله تعالى: {ليقولنّ الله} أي: المسمى بهذا الاسم حذف منه نون الرفع لتوالي والأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين، فقد أقرّوا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته، ولما تبين بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال الله تعالى مستأنفًا {قل الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره على ظهور الحجة عليهم بالتوحيد {بل أكثرهم لا يعلمون} أي: ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك، ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال استدلّ على ذلك بقوله تعالى: {لله} أي: الملك الأعظم {ما فيّ السموات} كلها {والأرض} كذلك ملكًا وخلقًا فلا يستحق العبادة فيهما غيره، ولما ثبت ذلك أنتج قطعًا قوله تعالى: {إن الله} أي: الذي لا كفء له {هو} أي: وحده {الغني} مطلقًا لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه وليس محتاجًا إلى شيء أصلًا {الحميد} أي: المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم على الإطلاق المحمود بكل لسان من ألسنة الأحوال والأقوال لأنه هو الذي أنطقها ومن قيد الخرس أطلقها، ولما قال تعالى: {لله ما في السموات والأرض} أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما، بين تعالى أنه لأحد ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض} أي: كلها، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى: {من شجرة} حيث وحدها {أقلام} أي: والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام {والبحر} أي: والحال أنّ البحر {يمده} أي: يكون مدادًا له وزيادة فيه {من بعده} أي: من ورائه {سبعة أبحر} تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة {ما نفدت كلمات الله} وفنيت الأقلام والمداد، قال المفسرون: نزل بمكة قوله تعالى.{ويسئلونك عن الروح}.الآية فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم: «كلًا قد عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال: صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم» قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول و{من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا: إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد؟أجيب: بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى: {يمدّه} لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوأة مدادًا فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبًا لا ينقطع، والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى: {قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي}.لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى.فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس؟أجيب: بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلامًا، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله؟أجيب: بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمه، وقرأ أبو عمرو: والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين: أحدهما: العطف على اسم أن، أي: ولو أنّ البحر، ويمدّه الخبر، والثاني: النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو، والتقدير: ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدودًا بكذا، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين: أيضًا أحدهما: العطف على أن وما في حيزها، والثاني: أنه مبتدأ، ويمدّه الخبر، والجملة حالية والرابط الواو تنبيه: قوله تعالى: {سبعة} ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، وإنما خصصت السبعة بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، ويدل على ذلك وجهان: الأوّل: أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أمورًا فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير.ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» الثاني: أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السموات سبعًا والأرضون سبعًا وأبواب جهنم سبعًا وأبواب الجنة ثمانية، لأنها الحسنى وزيادة، فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {عزيز} أي: كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته {حكيم} أي: كامل العلم لا نهاية لمعلوماته.تنبيه:قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلًا على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلًا على حذفها في الأشجار، ولما ختم تعالى بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ذكر بعض آثارها في البعث بقوله تعالى: {ما خلقكم} أي: كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصًا على كل واحد من الخلق والبعث على حدته بقوله تعالى: {ولا بعثكم} أي: كلكم {إلا كنفس} أي: كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقًا للمراد تأكيدًا للسهولة بقوله تعالى: {واحدة} فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة وقدرته مع كونها باقية بالغة فنسبة القليل والكثير إلى قدرته على حدّ سواء؛ لأنه لا يشغله شأن، عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله تعالى مؤكدًا {إن الله} أي: الملك الأعلى {سميع} أي: بالغ السمع يسمع كل مسموع {بصير} أي: بليغ البصر يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء، ولما قرّر تعالى هذه الآية الخارقة دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرّتين بقوله تعالى: {ألم تر} وهو محتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأكثر وكأنه تعالى ترك الخطاب مع غيره؛ لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة في الخطاب معهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم تبع له، والوجه الثاني: المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولايعين أحدًا فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك {أنّ الله} أي: بجلاله وعز كماله {يولج} أي: يدخل إدخالًا لا مرية فيه {الليل في النهار} فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه فإذا النهار قد عمّ الأرض كلها أسرع من اللمح {ويولج النهار} أي: يدخله كذلك {في الليل} فيخفى حتى لا يبقى له أثر فإذا الليل قد طبق الآفاق مشارقها ومغاربها في مثل الطرف فيميز سبحانه كلًا منهما من الآخر بعد اضمحلاله فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره {وسخر الشمس} آية للنهار يدخل الليل فيه {والقمر} أي: آية لليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه بقوله تعالى: {كل} أي: منهما {يجري} أي: في فلكه سائرًا متماديًا وبالغًا ومنتهيًا {إلى أجل مسمى} لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص هذا في الشهر مرّة وتلك في السنة مرّة، لا يقدر واحد منهما أن يتعدّى طوره ولا أن ينقض دوره ولا أن يغير سيره.تنبيه:قال تعالى: {يولج} بصيغة المستقبل، وقال في الشمس والقمر وسخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدّد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمرّ كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم}.وقال هاهنا إلى أجل، وفي الزمر لأجل؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقع. قال الأكثرون: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقيل: عامّ، ولما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى عليه بقوله تعالى: {وإنّ الله} أي: بما له من صفات الكمال {بما تعملون} أي: في كل وقت على سبيل التجدّد {خبير} أي: لا يخفى عليه شيء منه؛ لأنه الخالق له كله دقه وجله ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العليا أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله تعالى، قال تعالى: {ذلك} أي: المذكور {بأنّ} أي: بسبب أن {الله} أي: الذي لا عظيم سواه {هو} وحده {الحق} أي: بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته المستحق للعبادة {وأنّ ما يدعون} أي: هؤلاء المختوم على مداركهم وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله تعالى: {من دونه} أي: غيره {الباطل} أي: العدم في حدّ ذاته لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يدعون بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب وإن مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} أي: الملك الأعظم وحده {هو العليّ} على خلقه بالقهر فله الصفات العليا والأسماء الحسنى {الكبير} أي: العظيم في ذاته وصفاته. ولما قال تعالى: {ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر} ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبب ذكر بعده آية أرضية تدلّ على باهر قدرته وكمال نعمته وشمول إنعامه وأشار إلى السبب والمسبب بقوله تعالى: {ألم تر} وفي المخاطب بذلك ما تقدّم {أنّ الفلك} أي: السفن كبارًا وصغارًا {تجري} أي: بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البرّ {في البحر} أي: على وجه الماء {بنعمة الله} أي: بإنعام الملك الأعلى المحيط علمًا وقدرة المحسن إليكم بتعليم صفتها حتى تهيأت لذلك على يد أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام، وقيل: نعمة الله هنا هي الريح التي تتحرك بأمر الله {ليريكم من آياته} أي: عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها {إن في ذلك} أي: الأمر الهائل البديع الرفيع {لآيات} أي: دلالات واضحات على ماله من صفات الكمال {لكل صبار} على المشاق فيبعث نفسه في التفكير في عدم غرقه وفي مسيره إلى البلاد الشاسعة والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهابًا وإيابًا تارة بريحين، وتارة بريح واحدة. وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام ومن أراد الله تعالى من خلقه بها وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه وأموره {شكور} أي: مبالغ في كل من الصبر والشكر لأنهما الإيمان، كما ورد: الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه، ولهذا قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}.وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد، ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلًا ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلًا كما قال تعالى: {وإذا غشيهم} أي: علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم {موج} أي: هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئًا في أثر شيء متابعًا يركب بعضه بعضًا كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى: {كالظلل} فقال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، فإن قيل: كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع؟أجيب: بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة {دعوا الله} أي: مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه {مخلصين له الدّين} أي: الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئًا سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك {فلما نجاهم} أي: خلصهم من تلك الأهوال {إلى البر} نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين {فمنهم} أي: تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم {مقتصد} أي: عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض، قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، قال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، قال الكلبي: مقتصد في القول أي: من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولًا وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض.
|